ومن تلبيسه على العوام اطلاقهم انفسهم في المعاصي فإذا وبخوا تكلموا كلام الزنادقة . فمنهم من يقول : لا أترك نقدا لنسيئة . ولو فهموا لعلموا أن هذا ليس بنقد لأنه محرم وإنما بخير بين النقد والنسئية المباحين فمثلهم كمثل محموم جاهل يأكل العسل فإذا عوتب قال الشهوة نقد والعافيه نسيئة . ثم لو علموا حقيقه الايمان لعلموا ان تلك النسيئة وعد صادق لايخلف . ولو عملوا عمل التجار الذين يخاطرون بكثير من المال لما يرجونه من الربح القليل لمعلمـوا أن ما تركوه قليل
وما يجرجونه كثير ، ولو انهم ميزوا بين ما آثروا وما افاتوا انفسهم لرأوا تعجيل ما تعجلوا إذا فاتهم الربع الدائم واوقعهم في العذاب الذي هو الخسران المبين الذي لا يتلافى . ومنهم من يقول الرب كريم والعفو واسع والرجاء من الدين فيسمون تمنيهم واغترارهم رجاء وهذا الذي اهلك عامة المذنبين ، قال أبو عمرو بن العلاء : بلغني أن الفرزدق جلس إلى قوم يتذكرون رحمـة الله فكان أوسعهم في الرجاء صدرا فقالوا له : لم تقذف المحصنات ، فقال : اخبروني لو أذنبت إلى ولدي ما أذنبته إلى ربي عز وجل اتراهما كان يطيبان نفسا أن يقذفاني في تنور مملؤا جمرا ، قالوا لا إنما كانا يرحمانك ، قال فأني أويق برحمـة ربي منهما ، قلت : وهذا هو الجهل المحض لأن رحمـة الله عز وجل ليست برقة طبع ولو كانت كذلك لما ذبح عصفور ولا أميت طفل ولا أخل احد إلى جهنم ، وبإسناد عن عباد قال الاصمعي : كنت مع ابي نواس بمكة فإذا أنا بغلام أمرد يستلم الحجر الاسود فقال لي أبو نواس ، والله لا ابرح حتى اقبله عند الحجر الاسود ، فقلت : ويلك اتق الله عز واجل فإنك ببلد حرام وعند بيته الحرام فقال : ما منه بد ، ثم دنا من الحجر فجاء الغلام يستلمه فبادر ابو نواس فوضع خده على خد الغلام فقبله وأنا انظر فقلت : ويلك أفي حرم الله عز وجل فقال دع ذا عنك فإن ربي رحيم ثم انشد يقول :
وعاشقان التف خداهما=عند استلام الحجر الاسود
فاشتفيا من غير أن يأثما=كأنما كان على موعد
قلت : انظروا إلى هذه الجرأة التي نظر فيها إلى الرحمـة ونسي شدة العقاب بانتهاك تلك الحرمـة . وقد ذكرنا في أول كتاب هذا أن رجلا زنى بامرأة في الكعبه فمسخنا . ولقد جخلو على أبي نواس في مرض موته فقالوا له تب إلى الله عز وجل فقال إياي تخافون حدثني حماد بن سلمه عن يزيد الرقاشي عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل نبي شفاعتي وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، افترى لا أكون أنا منهم . .