« من أنفع طُرق العلم الموصلة إلى غاية
التحقُّق به أخذه عن أهله المتحقّقين به على
الكمال والتمام .
وذلك أنّ الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ثم علَّمه وبصّره ، وهداه طُرق مصلحته فى الحياة الدّنيا غير أنّ ما علمه من ذلك على ضربين :
ضربٌ منها ضرورىٌّ ، داخل عليه من غير علم
من أين ولا كيف ، بل هو مغروزٌ فيه من أصل الخلقة كالتقامه الثّديَ ومصّه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا – هذا من المحسوسات وكعلمه بوجوده وأن النقيضين لا يجتمعان –
من جُملة المعقولات .
وضربٌ منها بوساطة التعليم ، شعر بذلك أولا كوجوه التصرفات الضرورية ،
نحو محاكاة الأصوات ،والنّطق بالكلمات ،
ومعرفة أسماء الأشياء – فى المحسوسات
وكالعلوم النظريّة التى للعقل فى تحصيلها
مجال ونظر – فى المعقولات .
وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصُّر ،
فلا بدّ من مُعلِّم فيها ،
وإن كان الناس قد اختلفوا :
هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا ؟
فالإمكان مُسلَّم ولكنّ الواقع فى مجاري العادات أنْ لا بدّ من المعلّم ،
وهو متفق عليه فى الجملة ،
وإن اختلفوا فى بعض التفاصيل ...
... وقد قالوا :
" إنّ العلم كان فى صدور الرجال ، ثم انتقل
إلى الكتب ، وصارت مفاتحه بأيدى الرجال " .
وهذا الكلام يقضى بأن لا بدّ فى تحصيله من الرجال ، إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى
عندهم ، وأصل هذا فى الصحيح :
( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء ) الحديث
[ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهِما /
كتاب العلم ] .
فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك .
فإذا تقرّر هذا فلا يؤخذ إلاّ ممن تحقّق به وهذا أيضا واضح فى نفسه ،
وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء ،
إذ من شروطهم فى العالم بأيِّ علم اتفق ،
أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم قادرا على التعبير عن مقصوده فيه ،
عارفا بما يلزم عنه ، قائما على دفع الشُّبه الواردة عليه فيه ، فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه ،
وعرضنا أئمة السلف الصالح فى العلوم الشرعية وجدناهم قد أتصفوا بها على الكمال ...
وللعالم المتحقّق بالعلم أماراتٌ وعلاماتٌ تتفق
مع ما تقدم ، وإن خالفَتْها فى النظر ،
وهى ثلاث :
إحداها : العمل بما عَلِم ، حتى يكون قولُه مطابقا لفعله ، فإن كان مخالفا له ، فليس بأهل لأن يُؤخذ عنه ، ولا أن يُقتدى به فى علم ، وهذا المعنى مبيَّن على الكمال فى كتاب الاجتهاد والحمد لله .
والثانية : أن يكون ممّن ربّاه الشيوخ فى ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم ، فهو الجدير بأن يتّصف بما اتصفوا به من ذلك ، وهكذا كان شأن السلف الصالح .
فأوّل ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأخذُهم بأقواله وأفعله ، واعتمادهم على ما يَرد منه كائنا ما كان ، وعلى أيِّ وجهٍ صَدَر ، [ فهم ] فهموا مغزى ما أراد به أَوْلاً حتى علموا وتيقّنوا أنه الحقّ الذى لا يُعارض ، والحكمة التى لا ينكسر قانونُها ولا يَحوم النقص حول حمى كمالها ، وإنما ذلك بكثرة الملازمة ، وشدّة المثابرة .
وتأمّل قصة عمر بن الخطاب فى صلح الحديبية حيث قال : يا رسول الله ! ألسنا على حق ، وهم على باطل ؟ قال : ( بلى ) قال : أليس قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار ؟ قال : ( بلى ) قال : فَفِيمَ نُعطى الدَّنِية في ديننا ، ونرجع ولـمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : ( يا ابن الخطاب ! إنى رسول الله ، ولن يُضيّعنى الله أبدا ) .
فانطلق عمر ولم يصبر متغّيظا ، فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك .
فقال أبو بكر : إنه رسول الله ولن يضيّعه الله أبدا .
قال : فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح ، فأرسل إلى عمرَ فأَقْرَأَه إيّاه ، فقال : يا رسول الله ! أَوَفَتحٌ هو ؟ قال : نعم . فطابت نفسه ورجع . [ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهِما ]
فهذا من فوائد الملازمة ، والانقياد للعلماء ، والصبر عليهم فى مواطن الإشكال ، حتى لاح البرهان للعيان . وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين
أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لرددته اخرجه البخاري وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال ، وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة ، لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر ، ولكنهم سلّموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن ، فزال الإشكال والالتباس .
وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون فى الصحابة سيرتَهم مع النبى صلى الله عليه وسلم حتى فَقُهوا ونالوا ذِروةَ الكمال فى العلوم الشرعية ،
وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر فى الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر فى قرنه بمثل ذلك ،
وقلّما وُجدتْ فِرقة زائغةٌ ، ولا أحدٌ مخالفٌ للسّنّة إلاّ وهو مُفارق لهذا الوصف ...
والثالثة : الاقتداء بمن أَخذ عنه ،
والتأدُّبُ بأدبه ، كما علمتَ من اقتداء الصحابة بالنبيّ صلى الله عليه و سلم ،
واقتداء التابعين بالصحابة ،
وهكذا فى كلّ قرن ... » .
« وإذا ثبت أنه لا بدّ من أخذ العلم عن أهله ،
فلذلك طريقان :
أحدهما : المشافهة وهى أنفع الطريقين
وأسْلَمهما ، لوجهين :
الأول : خاصيّة جعلها الله تعالى بين المعلِّم
والمتعلم ، يشهدها كلُّ من زاول العلم والعلماء ،
فكم من مسألة يقرؤها المتعلّم فى كتاب ،
ويحفظها ويردّدها على قلبه فلا يفهمها ،
فإذا ألقاها إليه المعلّم فَهمها بَغْتَةً ،
وحصل له العلم بها بالحضرة ؟
وهذا الفهم يحصل إمّا بأمر عاديّ
من قرائن أحوال ، وإيضاح موضع إشكالٍ لم يخطر للمتعلّم ببال ،
وقد يحصل بأمر غير معتاد ،
ولكن بأمر يَهبه الله للمتعلّم عند مُثوله بين يَدي
المعلّم ،
ظاهرَ الفقر باديَ الحاجة إلى ما يُلقى إليه .
وهذا ليس يُنكر ،
فقد نبَّه عليه الحديث الذى جاء :
( إنّ الصحابةَ أنكروا أنفسَهم عندما مات
رسول الله صلى الله عليه و سلم ) .
[ صحيح البخاري / كتاب الجنائز ]
وحديث حنظلة الأُسيدي ، حين شكا إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم إذا كانوا عنده وفى مجلسه كانوا على حالة يَرْضَوْنَها ،
فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم ،
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( لو أنكم تكونون كما تكونون عندى ، لأظلّتكم الملائكةُ بأجنحتها ) .
[ أخرجه مسلم / كتاب التوبة ] .
وقد قال عمر بن الخطّاب :
« وافقتُ ربّى فى ثلاثٍ » ، وهى من فوائد
مجالسة العلماء ، إذ يُفتح للمتعلّم بين أيديهم
مالا يُفتح له دونهم ، ويبقى ذلك النورُ لهم بمقدار ما بَقُوا فى متابعة معلّمهم ، وتأدُّبهم معه ، واقتدائهم به ،
فهذا الطريق نافعٌ على كلّ تقدير ...
الطريق الثانى : مطالعةُ كتب المصنِّفين ومُدوِّني الدواوين ، وهو أيضا نافعٌ في بابه ، بشرطين :
الأول : أنْ يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ، ومعرفة اصطلاحات أهله ، ما يتمُّ له به النظرُ في الكتب ، وذلك يحصلُ بالطريق الأول ، ومن مشافهة العلماء ، أو مما هو راجع إليه ،
وهو معنى قول من قال : " كان العلم في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتب ، ومفاتحُه بأيدي الرجال " ،
والكتب وحدها لا تفيد الطالبَ منها شيئا ، دون فَتْح العلماء ، وهو مشاهد معتاد .
والشرط الآخر : أن يتحرّى كتبَ المتقدّمين من أهل العلم المراد ، فإنهم أقعد [ أي : أثْبَتُ ] به من غيرهم من المتأخرين ، وأصل ذلك التجربةُ والخَبَر .
أما التجربة : فهو أمرٌ مشاهدٌ في أيّ علم كان ، فالمتأخِّرُ لا يَبلُغُ من الرُّسوخ في علمٍ ما ما بلغه المتقدّم ، وحسْبُك من ذلك أهلُ كلِّ علم عمليٍّ أو نظريٍّ ، فأعمال المتقدِّمين – في إصلاح دنياهم ودينهم – على خلاف أعمال المتأخرين ، وعلومهم في التحقيق أقعد ، فتحقُّق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقُّق التابعين ، والتابعون ليسوا كتابعيهم ، وهكذا إلى الآن ، ومَن طالعَ سِيَرَهم وأقوالَهم وحكاياتهم ، أبصر العجبَ في هذا المعنى .
وأما الخبر ، ففي الحديث : ( خيرُ القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) [ أخرجه البخاري ومسلم في باب فضل الصحابة بلفظ : ( خير الناس ... ) ] .
وفي هذا إشارة ٌإلى أنّ كلَّ قَرنٍ مع ما بعده كذلك ورُوى عن النبي صلى الله عليه و سلم : ( أوّل دينكم نبوةٌ ورحمة ، ثم مُلك ورحمة ، ثم ملك وجَبريّة ، ثم ملك عَضوض ) . [ ارجع إلى تعليق المحقق في هامش الكتاب أو إلى السلسلة الصحيحة للعلاّمة الألباني حديث : رقم 5 ]
ولا يكون هذا إلا مع قلّة الخير ، وتكاثر الشرّ شيئا بعد شىء ... ، [ راجع للأهمية مجموع فتاوى ابن تيمية م 4 ص 9 - 23 -157 / م 5 ص 1 - 11 / م 11 ص 366 - 373 ) ] .
... فلذلك صارت كتبُ المتقدّمين وكلامهم وسِيَرهُم أنفعَ لمن أراد الأخذ بالاحتياط فى العلم ، على أيّ نوع كان ، وخصوصا علم الشريعة ، الذى هو العُروة الوثقى والوَزَرُ الأحْمَى ،
وبالله تعالى التوفيق » .
[ الوزر : الملجأ . والأحمى : الممنوع .
انظر : لسان العرب " وزر " ، و " ح م " ] .
جزاك الله اخي الكريم . ابوايوب
على
الموضوع الطيب
و
بارك الله فيك ياشيخ
التوقيع - عمر خالد
اللهم انتقم من نعجه سوريا المجرم وأعوانه ومن والاهم ، اللهم يا حي يا قيوم يا جبار السموات والأرض أرنا فيهم عجائب قدرتك ، اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا،،، اللهم رحماك رحماك باخواننا المسلمين المستضعغين في سوريا الحبيبه ، اللهم وعجل بفرجهم يا رب العالمين ، ولا حول ولا قوة الا بالله .
قال العلاّمة الـمحدث حماد الأنصاري
رحمه الله تبارك وتعالى :
" إنّ أهل العلم ينصحون طالب العلم
إذا رحل لطلب العلم أن لا يأخذ العلم عن عالم
أو شيخ حتى يعرف عقيدته ،
فإن كانت عقيدة سلفية أخذ عليه العلم ،
وإن كان خلاف ذلك فلا " .
المجموع في ترجمته ( 2 / 585 ) .
اعرف عن من تأخذ العلم يا عبد الله
للشيخ صالح السحيمي حفظه الله
قال ابن سيرين رحمه الله :
« إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون
دينكم » .
قال الشيخ ربيع حفظه الله :
" لا تأخذ دينك عن كل من هب و دب ،
لا تخلط بين الحق و الباطل،
فلابد أن تعرف من يصلح لأخذ دينك منه،
و تأخذ منه،
إن كنت تريد الحديث فلا تأخذ إلا ممن عرفت
دينه و تقواه و عدالته،
و إن أردت الفقه فلا تأخذ إلا ممن تعرف دينه
و عدالته و ثقته ....و هكذا.... " إن هذا العلم
دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " » .