الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
آمين ، ولك بمثل ما دعوت .
السنة الإسرار بالقراءة في الصلاة السرية .
قال أبو هريرة رضي الله عنه : فِي كُلِّ صَلاةٍ يُقْرَأُ ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ . وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْر . رواه البخاري ومسلم .
والسنة في سائر الصلاة أن يُسمِع الإنسان نفسه من غير تشويش على غيره .
فقد خَرَج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يرفعون أصواتهم بالقرآن فقال : ألا إنّ كلكم يناجي ربه ، فلا يؤذي بعضكم بعضا ، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة . رواه الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ورواه غيرهما ، وهو حديث صحيح .
قال البغوي : وكذلك السنة في القراءة ، وفي كل ذِكْر يأتي به خَلْف الإمام أن يُسْمِع نفسه ، ولا يَغْلِب جَارَه . قال الشعبي : إذا قرأت القرآن ، فاقرأ قراءة تُسمِع أذنيك ، وتُفَقِّه قلبك ، فإن الأذن عَدل بين اللسان والقلب . اهـ .
وقال الشيرازي : ويُستحب الإسرار في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء ؛ لأنه نَقْل الخلف عن السلف .
قال النووي : السنة الجهر في ركعتي الصبح والمغرب والعشاء وفي صلاة الجمعة ، والإسرار في الظهر والعصر وثالثة المغرب والثالثة والرابعة من العشاء ، وهذا كله بإجماع المسلمين مع الأحاديث الصحيحة المتظاهرة على ذلك ، هذا حكم الإمام ، وأما المنفَرِد فَيُسَنّ له الجهر عندنا وعند الجمهور ... دليلنا : أن المنفرد كالإمام في الحاجة إلى الجهر للتدبر فَسُنّ له الجهر كالإمام وأولى ؛ لأنه أكثر تدبرًا لقراءته لعدم ارتباط غيره ، وقدرته على إطاقة القراءة ، ويجهر بها للتدبر كيف شاء .
وقال أيضا : لو جَهَر في موضع الإسرار أو عكس لم تبطل صلاته ولا سجود سهو فيه ، ولكنه ارتكب مكروها . هذا مذهبنا ، وبه قال الأوزاعي وأحمد في أصح الروايتين ، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق : يسجد للسهو .
وقال في حكم الجهر في النوافل :
وأما نوافل النهار فَيُسَنّ فيها الإسرار بلا خلاف ، وأما نوافل الليل غير التراويح فقال صاحب التتمة : يجهر فيها ، وقال القاضي حسين وصاحب التهذيب : يتوسط بين الجهر والإسرار ، وأما السنن الراتبة مع الفرائض فيُسِرّ بها كلها باتفاق أصحابنا . اهـ . وذَكَر أن هذا هو مذهب الجمهور .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن رجل يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يُسمِّي ويقرأ ، ويفعل ذلك في كل صلاة ؟
فأجاب رحمه الله :
إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه فلا بأس بذلك ، كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مُدّة ، وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانا .
وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما ، بل لم يَنقل أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جَهر بالاستعاذة . اهـ .
وأما الجهر ببعض الأدعية أو ببعض الآيات أحيانا ؛ فهذا لا بأس به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله ، وفعله بعض أصحابه ، ولم يُنْكِر عليهم .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والْمَغْرَم . قالت : فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ مِن المغرم يا رسول الله ؟ فقال: إن الرجل إذا غَرم ، حدث فكذب ، ووعد فأخلف . رواه البخاري ومسلم .
قال ابن رجب : وسماع عائشة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته يدل على أنه كان أحيانا يُسمع مَن يَلِيه دعاءه ، كما كان أحيانا يُسمع مَن يليه الآية مِن القرآن . اهـ .
وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا ، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين ، وكان يطول في الأولى ، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية . رواه البخاري ومسلم .
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه وهو يجهر ببعض الأدعية ، وأقرّهم على ذلك ، ومن ذلك :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ، فإذا هو برجل قد قضى صلاته ، وهو يتشهد وهو يقول: اللهم إني أسألك يا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم . فقال : قد غفر له قد غفر له . ثلاثا . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، وصححه الألباني والأرنؤوط .
وقال ابن حجر : وللنسائي من حديث البراء : كنا نُصلي خَلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة مِن حديث أنس نحوه ، لكن قال : بِـ سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية .
واسْتُدِلّ به على جواز الجهر في السرية ، وأنه لا سجود سهو على مَن فعل ذلك خلافا لمن قال ذلك مِن الحنفية وغيرهم ، سواء قلنا كان يفعل ذلك عمدا لبيان الجواز ، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر ، وفيه حُجة على مَن زعم أن الإسرار شرط لصحة الصلاة السرية . وقوله : " أحيانا " يدل على تكرر ذلك منه . اهـ .
وسُئل شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله :
هل يجوز الجهر في الصلاة السرية ؟
فأجاب :
يجوز الجهر بالقراءة في الصلاة السرية مع الكراهة ، والسنة أن يقرأ فيها سِرًّا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسِرّ القراءة في الصلاة السرية ، ويجهر بها في الجهرية ، ويستحب أن يجهر ببعض الآيات في الصلاة السرية بعض الأحيان ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك . متفق عليه من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه . اهـ .
والله تعالى أعلم .