لقلب هو محل نظر الرب تبارك وتعالى، ولهذا جاء في الحديث: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
جعل الله مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا ملئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله ومراد رسوله كان ذلك دليل الصحة والسلامة، وصاحبه ناج في الدنيا من الفتن والشبهات والشهوات، وسالم ناج يوم القيامة ? يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ?[ الشعراء:88ـ89].
وهذا القلب إذا لم يتعهده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإن الشهوات سرعان ما تتسرب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب وقد يموت والعياذ بالله، فإذا لم يتدارك العبد هذا المرض، واستمر على العصيان، فإن القلب يصاب بعدد من العقوبات حيث يقسو ويشتد ويغلف ويطمس ويقفل ويطبع عليه ويزيغ عن الحق وعندها تكون حالة موت القلب التي هي أسوأ الحالات لأنها تنقل صاحبها من الإيمان إلى الكفر وتجعله في مرتبة هي أحطَّ من البهائم كما قال تعالى عن هؤلاء ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?[ الأعراف:179].
ومما يصاب به القلب من العقوبات العمى الذي يصاب به فلا يكاد صاحبه يرى شيئاً من الحق ولهذا وصف الله قلوب الكفار بالعمى فقال: ? فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ?[ الحج: من الآية46], فالعمى الحقيقي ليس عمى البصر وإنما هو عمى القلب والبصيرة، لأن أعمى البصر يستطيع السير في الطريق بالاستعانة بعصا أو دليل، أما أعمى القلب فلا دليل يرشده فهو يتخبط في كل اتجاه ويقع في كل هاوية ويصطدم بكل شيء فهو في زيغ دائم، وقلبه مقفل مختوم.
أيها المؤمنون:
إن مرض القلوب أكثر بكثير من مرض الأبدان ولكن الناس لا يحسون بأمراضهم ولا يشعرون، فمريض القلب بالشهوة أو الشبهة لا يدري أنه مريض، ثم إن عاقبة مرض القلوب غير مشاهدة لكثير من الناس والإحساس بالألم هذا المرض قليل بخلاف مرض البدن وأيضاً عدم وجود أو ندرة أطباء القلوب وأطباء القلوب هم العلماء الربانيون العاملون بعلمهم وراثوا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أقل هؤلاء وما أندرهم.
ولخطورة مرض القلب نجد الآيات القرآنية تحذر منه غاية التحذير وتنذر مرضى القلوب بالعذاب الشديد، ويبين الرسول الكريم صلوات وسلامه عليه بدايات المرض وحذر من مغبته في أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد إذا اخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: ? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?[ المطففين:14].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فينكت فيه نكتة أخرى، حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء يعني السوداء.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: القلب بمنزلة الكف، فإذا أذنب تقبض.. حتى يجتمع، فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيراً دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد منه مدخلاً فيخرج فذلك قوله عز وجل? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ?[المطففين:14].
فهذه الأحاديث تبين بأن كثرة المعاصي وعدم المبالاة بها تجعل القلب يصد أو يسود ويعلوه الران حتى يكون عليه حجاب كثيف يحجب عنه أنوار الهداية والإيمان شيئاً فشيئاً حتى يتبلد ويموت.
والقلوب لا يدعها الله تعالى حتى يبتليها ويفتنها بالفتن الكثيرة حتى تظهر حقيقتها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصف وصفاً دقيقاً الفتن التي تتوارد على القلب وبين التأثير البالغ الذي تحدثه فتن الأهواء والشهوات كما جاء في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه"، فالقلب المفتون هو المجخي المائل المنكوس الذي خرج منه كل خير وإيمان، كالكأس إذا انتكس وسكب ما بداخله صار فارغاً إلا من الهواء. وصاحب هذا القلب هو شر الناس وأخبثهم فإنه يعتقد الباطل حقاً والحق باطلاً، لا يوجد بقلبه سوى الهوى والضلال.