حكم مخاطبة الجن والاستعانة بهم في الرقية
الفتوى رقم: 1143
الصنف: فتاوى طبِّية
في حكم مخاطبة الجن والاستعانة بهم في الرقية
السؤال:
هل يجوز للراقي مُخاطبةُ الجنِّ، ومحاورتُهم والتحدُّثُ معهم، ودعوتهم إلى الإسلام، والاستعانة بهم في معرفة السحر ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيحرم إتيان الكاهن والعرَّاف، ومُساءلةُ الجنِّ والحوارُ معهم على وجه التصديق لهم في كلِّ ما يُخبرون والتعظيمِ لشأنهم(1).
فقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ؛ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَة»(2).
كما ثبت عن معاويةَ بنِ الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الكُهَّانَ قَالَ: فَلاَ تَأْتُوا الكُهَّانَ»(3).
و«العرَّاف»: اسمٌ للكاهن والمنجِّم والرمَّال ونحوهم ممَّن يتكلَّم في معرفة أمور الغيب(4)، فهُمْ إخوانُ الشياطين ورُسلُهم.
وفي مَعْرِض بيان أنَّ الكهنة رسلُ الشياطين يقول ابن القيِّم -رحمه الله-:
«..لأنَّ المشركين يُهْرَعون إليهم ويَفْزَعون إليهم في أمورهم العظام، ويصدِّقونهم ويتحاكمون إليهم ويرضَوْن بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويُخبرون عن المغيَّبات التي لا يعرفها غيرُهم، فهُم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل، فالكهنةُ رسل الشيطان حقيقةً، أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبَّههم بالرسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبُه، ومثَّل رُسُلَ الله بهم ليُنَفِّر عنهم، ويجعلَ رُسُلَه هم الصادقين العالمين بالغيب.
ولمَّا كان بين النوعين أعظمُ التضادِّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدِ»(5)»(6).
ولا يجوز الاستعانة بهم لأنَّ ذلك من الشرك، ولا استخدامُهم لتحقيق أعمالٍ صالحةٍ أو طالحةٍ، لدخوله في باب السحر والاستعانة بالشياطين، وهي تُعَدُّ أعمالاً مخلَّةً بالعقيدة، فضلاً عن كونه يُضعف قوَّةَ توجُّهه واعتماده على الله تعالى، ويفتح باب شرٍّ على التوحيد لمن يستخدم الجنَّ من المشعوذين، ويتعدَّى على ما خصَّ الله به نبيَّه سليمانَ عليه السلامُ من تسخير الجنِّ لخدمته لقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب﴾ [ص: 35].
أمَّا محاورتُهم والتحدُّث معهم لمن ليس عنده المقدرة على تمييز صدقهم فيما طابق خبَرَ الوحي مِن كذبهم المخالِفِ له فلا يجوز، خشيةَ الاستدراج والاحتيال من الشياطين، ومكرُهم بالناس كبيرٌ.
قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، وقال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف: 50]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 119].
فعداوة الشياطين لا تزول ولا تحول، وفتنتهم للناس عظيمةٌ، ومهارتهم في الإضلال كبيرةٌ، فقد تُوهِم الناسَ أن يعتقدوا في القارئ أنَّ لديه سرًّا معيَّنًا تتعَّهد له به الجنُّ ألاَّ تعود إلى المصروع مثلاً، فيصير الناس يضربون إليه أكباد المطيِّ ويتزاحمون على بابه، الأمرُ الذي يساعد على دخول العُجب في نفسه وإصابته بالزهو والرياء والكبرياء، ويظنُّ بنفسه الظنونَ، ويورِّطه في الفتنة، لذلك يجب تجنُّب الوقوع في مثل هذه المفاسد وسدُّ مداخلها.
أمَّا مساءلتهم ومُحاورتهم على سبيل الامتحان لحالهم، ومعرفةِ وجه اعتدائهم، لدفع الظلم وإزالته عن المظلوم والاطِّلاع على اعتقادهم باختبارِ باطنِ أمرهم مع وجود مقدرةٍ على ما يُميِّز به صدْقَهم من كذبهم؛ فحكمُه الجواز، ويدلُّ عليه امتحانه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لابن صيَّادٍ الكاهن، الذي كان يأتيه الشيطان ويتكلَّم على لسانه، لِمَا للشيطان من قدرةٍ على ملامسة الإنسان، كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275]، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»(7)، إذ المعلوم أنَّ البشر العاديَّ لا يمكن أن يرى الجِنِّيَّ؛ لأنَّه روحٌ بلا جسدٍ يخترقه البصر، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]، والكاهن لا يرى الجِنيَّ في صورته وإنما يتشكَّل له في صورةٍ أخرى فيظهر له ويخبره.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ابْنَ صَيَّادٍ، فَقَالَ: مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ خَبَّأَتُ لَكَ خَبِيئًا، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ هُوَ: الدُّخُّ(8) فَقَالَ: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»(9).
ويرى الخطَّابيُّ أنَّ امتحان النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما خبَّأه له من آية الدخان، فلأنه كان يبلغه ما يدَّعيه من الكهانة ويتعاطاه من الكلام في الغيب، فامتحنه ليعلم حقيقة حاله، ويُظهر إبطالَ حالِه للصحابة، وأنه كاهنٌ ساحرٌ يأتيه الشيطان(10).
هذا، ويجوز مع الجِنِّي ما يجوز مثلُه في حقِّ مجهول الحال الإنسيِّ، فإنَّ خبر الفاسق يُسمع ويُتَبيَّن منه ليُحتاط له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6].
ومن هاهنا امتنع طوائفُ من العلماء من قَبول رواية مجهولِ الحال لاحتمال فِسقه في نفس الأمر، وكذلك خبرِ الكفَّار والفجَّار، فلا يُجزم بصدقه ولا كذبه مع مشروعية سماعه.
ويدلُّ على جواز سماع ما يقولونه من غير تصديقٍ ولا تكذيبٍ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَأُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا»(11).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: 05 جمادى الأولى 1418ه
الموافق ل: 07 سبتمبر 1997م
(1) انظر مفاسد مُحاورة الجنِّ في كتاب: «الدليل والبرهان على بطلان أعراض المسِّ ومُحاورة الجان» مدحت عاطف (ص 44 - 48).
(2) أخرجه مسلم في «السلام»، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (2230)، من حديث صفيَّة عن بعض أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم. وأخرجه أحمد (16638)، بلفظ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بما يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لهُ صَلاَةٌ أرْبَعِين يوْمًا».
(3) أخرجه مسلم في كتاب «السلام»، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهَّان (537).
(4) والملفت للنظر: أنَّ من الكهانة والتنجيم تصديقَ الأبراج المتداولة في الصحف والمجلاَّت، ويَحرم على القارئ الاطِّلاع على حظِّه منها، ولو من غير تصديقٍ، وتقرير التحريم مبنيٌّ على مبدأ سدِّ ذريعة الشرك.
(5) ذكره الهيثمي في «المجمع» (5/ 118)، وقال: «رواه البزَّار، ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن مريم، وهو ثقةٌ»، والحديث صحَّحه الألباني «صحيح الجامع الصغير» (5/ 223).
(6) «إغاثة اللهفان»، لابن القيِّم (1/ 197).
(7) أخرجه البخاري في «الاعتكاف» باب: هل يدرأ المعتكف عن نفسه (2039)، ومسلم في «السلام» (2175)، من حديث صفيَّة رضي الله عنها.
(8) «الدخُّ» بضم الدال وفتحها: الدخان. «النهاية» لابن الأثير (2/ 107).
(9) أخرجه البخاري في «الجنائز» باب إذا أسلم الصبيُّ فمات، هل يصلَّى عليه، وهل يُعرض على الصبيِّ الإسلام (1354)، ومسلم في «الفتن وأشراط الساعة» (2930)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(10) «معالم السنن» للخطَّابي (4/ 503 - 504).
(11) أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ» (7362).
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1143