« كل من ابتغى في تكاليف الشّريعَةِ
غيرَ ما شُرعت له فقد ناقضَ الشّريعةَ
وكل من ناقَضَها ،
فعملُه في المناقَضَةِ باطلٌ ،
فمن ابتغى في التكاليف ما لم تُشرع له فعملُه باطلٌ .
أما أنّ العملَ المناقض باطلٌ ، فظاهرٌ ،
فإنّ المشروعات إنّما وُضعت لتحصيلِ المصالح ودرء المفاسد ،
فإذا خُولِفت لم يكن في تلك الأفعال التي خُولِفَ بها جلب مصلحة ولا درء مفسدة .
وأما أن مَن ابتغى في الشريعة
ما لم توضع له ،
فهو مناقضٌ لها ، فالدليل عليه أوجه :
أحدها : أن الأفعال والتروك من حيث
هي أفعال أو تروك متماثلة عقلا بالنسبة إلى ما يقصد بها ،
إذ لا تحسين للعقل ولا تقبيح ،
فإذا جاء الشارعُ بتعيين أحد المتماثلين للمصلحة وتعيين الآخر للمفسدة ،
فقد بيّـن الوجهَ الذي منه تحصل المصلحةُ فأمر به أو أذن فيه ،
وبيّـن الوجهَ الذي به تحصلُ المفسدةُ
فنهى عنه رحمة بالعباد .
فإذا قصدَ المكَلَّفُ عينَ ما قصدهُ الشارعُ بالإذن فقد قصدَ وجه المصلحة على أتم وجوهه ،
فهو جديرٌ بأن تحصلَ له وإن قصد غيرَ
ما قصده الشارع ،
وذلك إنما يكون في الغالب لتَوَهُم أن المصلحة فيما قصدَ ،
لأن العاقل لا يقصد وجه المفسدة كِفاحاً ،
فقد جعل ما قصد الشارع مُهملَ الاعتبار ، وما أهمل الشارعُ مقصوداً معتبراً ،
وذلك مضادةٌ للشريعةِ ظاهرةٌ .
والثاني : أن حاصل هذا القصد يرجع
إلى أن ما رآه الشارعُ حسناً ،
فهو عند هذا القاصدِ ليس بحسن ،
وما لم يره الشارعُ حسناً فهو عنده حسنٌ ، وهذه مضادةٌ أيضا .
والثالث : أن الله تعالى يقول :
{ ومَن يشاقق الرّسولَ مِن بعد ما تبيّن
له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين
نولّه ما تولّى } [ النساء : 115 ] الآية .
وقال عمر بن عبد العزيز :
" سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وولاة الأمر من بعده سننا ،
الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله ،
واستكمالٌ لطاعة الله وقوةٌ على دين الله ،
مَن عمل بها مُهتدٍ ، ومن استنصرَ بها منصورٌ ، ومَن خالفها اتّبعَ غيرَ سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولى ،
وأصلاه جهنم وساءت مصيرا "
والأخذ في خلاف مآخذ الشارع من حيث القصد إلى تحصيل المصلحة أو درء
المفسدة مشاقةٌ ظاهرةٌ .
والرابع : أن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارعُ ذلك القصدَ
آخذٌ في غير مشروع حقيقة ، لأن الشارعَ إنّما شرعه لأمر معلوم بالفرض ، فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم ،
فلم يأتِ بذلك المشروع أصلا ،
وإذا لم يأت به ناقَضَ الشارعَ في ذلك
الأخذِ مِن حيث صار كالفاعلِ لغير
ما أُمِرَ به والتارك لما أُمِرَ به .
والخامس : أنّ المكلفَ إنّما كُلِّفَ بالأعمال
من جهةِ قصدِ الشارعِ بها في الأمر
والنهي ،
فإذا قصد بها غير ذلك ،
كانت بفرض القاصد وسائلَ لما قصد
لا مقاصد ،
إذ لم يقصد بها قصدَ الشارعِ فتكون مقصودة ،
بل قصد قصدا آخر جعل الفعل أو الترك وسيلة له ،
فصار ما هو عند الشارع مقصودٌ وسيلة عنده ، وما كان شأنه هذا نقضٌ لإبرامِ الشارعِ وهدمٌ لما بناهُ .
والسادس : أن هذا القاصد مستهزئ
بآيات الله ،
لأن من آياتِه أحكامُه التي شرعَها ،
وقد قال بعد ذكر أحكامٍ شرعها :
{ ولا تتّخذوا آيات الله هزوا }
[ سورة البقرة : 231 ] .
والمراد أن لا يقصد بها غير ما شرعها
لأجلها ،
ولذلك قيل للمنافقين حيث قصدوا بإظهار الإسلام غير ما قصده الشارع :
{ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون }
[ سورة التوبة : 65 ] .
والاستهزاء بما وضع على الجد مضادة لحكمته ظاهرةٌ ،
والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
وللمسألة أمثلة كثيرة كإظهار كلمة
التوحيد قصداً لإحراز الدم والمال ،
لا لإقرارٍ للواحدِ الحَقِّ بالوحدانية ،
والصلاة لينظر إليه بعين الصلاح ،
والذبح لغير الله ، والهجرة لينال دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ،
والجهاد للعصبية أو لينال شرف الذكر
في الدنيا ،
والسلف ليجرِّ به نفعاً ،
والوصية بقصد المضارة للورثة ،
ونكاح المرأة ليحلها لمطلقها ،
وما أشبه ذلك » .